الجمعة، 8 نوفمبر 2019

لماذا أحب فيلم " أيامنا الحلوة " ؟


                                   


سنوات طويلة أخذتني بعيدا عن دنيا الفن السابع .. فلم يعد شغفي بالأفلام السينمائية  و الدراما بشكل عام له حيز  كبير أو حتى صغير في حياتي .. لم أتعمد ذلك و لكنني وجدت نفسي هكذا .. أصابني الملل و الضجر من كل أنواع الدراما قديمها و حديثها .. و إن كان قديمها ما زال يحمل بعض من الذكريات الجميلة  و الصور الأنيقة التي تجذبنا  رغما عنا .. لم يعد لي طاقة بالصبر أمام  شاشة التلفاز أو  الكمبيوتر  لمتابعة فيلم مدته تقترب من الساعتين .. و إن حدثت المعجزة و شاهدته لا أستطيع أن أكرر مشاهدته مرة أخرى بأي شكل من الأشكال حتى و  إن أعجبني الفيلم  ..  

                                         
                                       

لكن فيلم " أيامنا الحلوة "  له استثناء خاص جدا  ..  ربما هناك عدة أفلام  من هذا  العصر لديها عندي استثناءات أيضا لكني أعتقد أن " أيامنا الحلوة " له استثناء  الاستثناء .. حقيقة  لا أعرف سر ذا السحر الذي يكتنف هذا الفيلم  بالنسبة لي .. بل أعتقد أن هذا الفيلم  هو استثناء في ذاته  بالنسبة للسينما المصرية .. فيلم بسيط جدا في قصته و في السيناريو  و الحوار  .. لا يحمل أي ملمح من ملامح  سينما ذلك العصر التي تفرط في "الميلودراما " أو تراكيب الحوار المفخمة  التي تحتوي الكثير من  كلمات تناسب الخطب العصماء الرنانة لا الحوار السينمائي الذي ينقل لنا صورة  من الحياة العادية البسيطة  .. حتى شخصيات فيلم " أيامنا الحلوة "  أجدها بعيدة تماما  عن شخصيات  أفلام هذه الفترة  .. التي كانت تبالغ في رسم ملامح الشخصيات و تراكيبها الدرامية  التي قد تثير السخرية الآن حين نراها بعين عصرنا بعد مرور سنوات طويلة  من صناعة هذه الأفلام .. 

                                                       

إلا أن هذا الفيلم " الناعم "  الجميل  الذي أجبرني اليوم على ترك كل ما في يدي  حين لمحته صدفة يعرض على قناة روتانا كلاسيك  .. فجلست أمامه مسحورة بنفس إحساسي الذي تابعته فيه في كل المرات السابقة التي لا أعرف عددها ..  تكاد  تقسم أن كل شخصيات هذا الفيلم  من بدايته إلى نهايته .. شخصيات نبيلة  طيبة .. اللهم إلا  صبي القهوة الذي ادعى  كذبا  و افتراءا على " هدى " أو " فاتن حمامة " أنه شاهدها في وضع مشين مع " رمزي "  أو " أحمد رمزي "  .. غير ذلك كل الشخصيات لديها الملامح الطبيعية للبشر  ..  فيها المزيج  الإنساني الطبيعي من الخير و الشر معا .. و إن كان الفيلم قد أعلى من نسبة الخير  غير المتكلف  التي جعلتنا  نشعر بمساحة من التسامح  و الود مع كل أبطال الفيلم و تفاصيله بل و مع  الحياة ذاتها .. و أعتقد أن هذا هو دور الفن ..  على الرغم من أن هناك من يرفض ذلك باعتبار أننا يجب أن نلتفت لمواطن القبح  و الشر  حتى  لا نكذب على أنفسنا .. و حتى يمكننا إصلاح  عيوب مجتمعاتنا و التركيز على الأخطاء .. لكني لا أتفق  بشكل كبير مع هذا الرأي .. ذلك أن صور القبح  استمرت منذ الأزل تتوالى على أبصارنا .. بل و  وعينا  منذ حكايات الجدات و الأمهات فلم تصلح خطئا أو داوت علة .. بل على العكس انتشرت عدوى هذه العلة و غيرها من العلل  و استشرى القبح و تكاثر حتى صار اعتيادا .

                                                               

و لنعد لمساحة الخير و الجمال الذي بثه في نفسي  فيلم  " أيامنا الحلوة "  اليوم  و ما زال أثره  باق حتى كتابة هذه السطور التي قررت أن اكتبها على عجل قبل أن يزول هذا الأثر الناعم الجميل ..  فنحن  نشاهد منذ البداية  حكاية  بسيطة لفتاة جميلة رقيقة  و بسيطة أيضا  .. تخرجت في ملجأ للأيتام  و لم تجد  مكانا  لدى خالتها لتسكن إليه .. لم يركز الفيلم على هذا الموقف الصعب إلا بإشاحة بسيطة خجولة من الخالة  عندما تقترح مديرة الملجأ  أن تقيم " هدى " عندها .. لم يقدم لنا السيناريو أن هذه الخالة  شريرة أو متخاذلة و إنما قدمها بصورتها البشرية الانسانية الطبيعية  التي لديها قدر من  المشكلات  التي تعوق رعايتها لابنة اختها .. ربما قد يكون من عيوب السيناريو أن هذه المرأة لم تظهر مرة أخرى طوال الفيلم باعتبارها خالة البطلة التي تتعرض لمشكلات خلال أحداث الفيلم .. لكن يظل الفيلم  بنفس القدر من الجمال للبناء الدرامي البسيط  .. حتى  في سعي مديرة الملجأ و خالة  هدى لتزويجها من أول عريس يتقدم لها .. يفاجئنا السيناريو  الأنيق بأن العريس هو الذي يرفض " فاتن حمامة "  لأنها ليست طول بعرض .. و هذا قلما يحدث في الأفلام المصرية .. إذ أن البطلة  في عرف السينما  المصرية  كائن  براق لابد و أن يهيم به الجميع  . 

                                       

تنقلنا " الحكاية "  مع هدى  إلى بيت خفيفة الظل دائما  زينات صدقي أو الست "زنوبة "  لنعرف أنها بحثت كثيرا عن  حجرة تسكن فيها و لم تجد .. فيرق قلب الست زنوبة  لها  و تقرر أن تمنحها الحجرة الخالية  الموجودة  على سطح بيتها نظير إيجار خمسون قرشا .. و هنا أيضا نلمح  الملامح البشرية المعتدلة  التي تجعل زنوبة تتململ في البداية من أن تمنح فتاة شابة حجرة  لتسكن فيها بمفردها ..  لكن الجانب الخير  يتغلب على الجانب الواقعي  المادي فتقرر منحها الحجرة  .. ثم يظهر الشباب الذين يعدوا رغم كل هذه  السنيين .. أفضل من قاموا بأدوار الشباب على مدى عمر السينما المصرية  .. فكانت ملامح شخصياتهم على بساطتها و سطحيتها أحيانا تقدم لنا " كوكتيل " إنساني  رائع  يحتوي كل العناصر المفيدة  للشخصية الدرامية  المميزة .. خفة الظل و المرح و طموح الشباب و عفويتهم و بساطة أدائهم و كم الخير الممزوج ب " الشقاوة و العفرتة "  .. و الغريب أن تكون  شخصية " رمزي " أول دور يقوم به  الوجه الجديد  حينئذ الفنان أحمد رمزي .. و لا أبالغ إن قلت أن دور رمزي هو أجمل أدوار احمد رمزي  على الإطلاق .. و الغريب أيضا أن يظهر " عبد الحليم حافظ " و الذي كان قد  رسخ أقدامه في عالم الفن وقتها في دور ثانوي هو  دور : " علي " و إن كانت مساحة الدور كبيرة   مدعومة بعدد من الأغنيات الجميلة  ،  ثم يأتي دور عمر الشريف الذي أعتقد أنه كان الثاني الذي يقدمه للشاشة الفضية بعد دوره في فيلم صراع في الوادي .. ليؤكد  حضوره  القوي في الأدوار الرومانسية  رغم الملامح الانسانية التي طبعت كل ابطال الفيلم .. فأعطتهم  قبولا  واقعيا  ليمنحهم هذا القبول تذكرة  لقلوب المشاهدين بلا استئذان .. 


                                 

يذكرني الاحساس الجميل الذي استحوذ علي من بعد مشاهدة هذا الفيلم بفيلم إيراني شاهدته  منذ سنوات طويلة  عرض في مهرجان لسينما الأطفال .. لكنه كان فيلما للكبار و الصغار معا ..  حيث قدم لنا الفيلم مجموعة من النماذج البشرية الطيبة  رغم المشكلات التي ملأت أحداث الفيلم لكن تفاعل الأبطال مع بعضهم البعض تجاه هذه الأحداث جعل الدنيا تبدو أجمل .. و بالتالي أحدث ذلك عندي قدر كبير من إسقاط  أثر الفيلم على الواقع الذي تعاملت معه بمجرد خروجي من قاعة العرض السينمائي للشارع  الذي  كان ما زال على حاله قبل دخولي قاعة العرض .. إلا أن عيني و قلبي أصبحا على استعداد للتعامل مع  الواقع بصورة أفضل مما سبق .. فلم أعد أرى الواقع بذات العين  و أحسه بنفس القلب الذي أتعامل معه يوميا مشحونة بكل تفاصيل الصراع اليومي . و قد حدث ذلك أيضا مع مشاهدتي لفيلم  " شقة مصر الجديدة "  للمخرج الراحل محمد خان  الذي أعتقد أن كاتبة سيناريو هذا الفيلم  ربما تكون قد تأثرت بفيلمنا الجميل الناعم :  " أيامنا الحلوة "  .. الذي قد يعترض البعض أو تؤلمهم نهايته .. إلا أن بطلته تقول في مشهد لها  : " أنا خلاص أخدت نصيبي من الدنيا "  و كأنها كانت تنشد الحب  و لما منحت إياه  من كل أبطال الفيلم و ليس من  البطل أحمد أو عمر الشريف وحده .. فكأنها  أخذت جرعة الحب التي قد يظل غيرها يبحث عنها على مدار عمره ..   و هكذا نحن منحنا هذه الجرعة من الحب و الخير من فيلم واحد على مدار عمر السينما المصرية  ..  فكانت هذه الجرعة  الحلوة  .. من أيامنا الحلوة  .  رحم الله كل أفراد  هذا العمل الفني الجميل .